حينما
تشتري دفترًا جديدًا وتقلب بين صفحاته ، تسائل نفسك: هل أستطيع أن أملأ
صفحاته البيضاء ، وربما تكون من أصحاب العزيمة والإصرار فتقول : غدًا أملا
هذه الصفحات .. وربما يكون غيرك من أصحاب التواني والفتور فيقول: العمر
طويل وسواء ملأتها اليوم أو غدًا .. فلا فرق ..
الكل يفكر في
الوقت الذي يستغرقه لملء أوراق هذا الدفتر البيضاء ، فمن الناس من ينشط
ومنهم من يكسل .. ولكن العبرة ليست بالنشاط والكسل والسرعة والبطء والهمة
والعجز ، بقدر ما هي بالنوع .. نعم ؛ نوع ما ستملأ به هذه الصفحات..
وإذا
نظر المؤمن إلى أوراق هذا الدفتر، وتأمل ما فيها وتخيل أن هذه هي صحيفته
.. كتابه الذي سيأخذه يوم القيامة ، وهو الآن بين يديك ، أبيض ليس فيه خط
واحد ، فبماذا تحب أن تملأه؟
إنك إذا خططت خطًا معوجًا أو كتبت
كلمة خطأً ، رجعت إليها ومسحتها ، فلماذا لا ترجع إلى أفعالك وتقف مع
أعمالك لتنظر الحسن من السيء، والجميل من القبيح، فتثبت الحسن والجميل،
وتمحو السيء والقبيح.. إن هذا بكل بساطة هو معنى أن تحاسب نفسك.
معنى المحاسبة
يقول
الله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد
واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون . ولا تكونوا كالذين نسوا الله
فأنساهم أنفسهم..." (الحشر: 18، 19).
قال الماوردي (رحمه الله):
في مـعـنـى المحاسبة: "أن يتصفّح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره،
فإن كان محموداً أمـضـــــاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموماً
استدركه إن أمكن وانتهى عن مثله في الـمستقبل"( موسوعة نضرة النعيم، 8/
3317.).
وقال ابن القيم (رحمه الله): "هي التمييز بين ما له وما
عليه (يقصد العبد) فـيـسـتـصـحـب مـا لــه ويـؤدي مـا عليه؛ لأنه مسافرٌ
سَفَرَ من لا يعود"( مدارج السالكين، 1/187).
وقال الـحـارث
الـمـحـاسـبي (رحمه الله): "هي التثبّت في جميع الأحوال قبل الفعل والترك
من العقد بالضمير، أو الفـعــل بالجارحة؛ حتى يتبيّن له ما يفعل وما يترك،
فإن تبيّن له ما كره الله ـ عز وجل ـ جانـبه بعقد ضمير قلبه، وكفّ جوارحه
عمّا كرهه الله ـ عز وجل ـ ومَنَع نفسه من الإمساك عن ترك الفرض، وسارع
إلى أدائه"( التربية الذاتية من الكتاب والسنة لهاشم علي أحمد 97).
السلف ومحاسبة النفس
والمتتبع
لسيرة سلفنا الصالح يجد تراثًا زاخرًا لقضية محاسبة النفس ، مما يدل على
خطورة المكانة التي احتلتها هذه القضية من أفهامهم وأعمالهم.
يقول
عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها
قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم،
وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية".
و كتب
(رضي الله عنه) إلى بعض عماله قائلاً: "حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب
الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل الشدة، عاد أمره إلى الرضا
والغبطة، ومن ألهته حياته، وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة".
وذكر الإمام أحمد عن وهب قال: مكتوب في حكمة آل داود: "حق على
العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها
نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه،
وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن في هذه الساعة
عونًا على تلك الساعات وإجمامًا للقلوب".
وقال الحسن رضي الله عنه: "إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة همته".
ويحذّر
ابـن الـقـيـم ـ رحمـه الله ـ من إهمال محاسبة النفس فيقول: "أضرّ ما على
المكلّف الإهمال وترك المحاسبة، والاسـتـرسال، وتسهيل الأمور وتمشيتُها؛
فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور: يغمض عينيه عن العواقب،
ويمشّي الحال، ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة،
وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأنسَ بها وعسر عليه فطامها)( إغاثة
اللهفان، 82).
وكان الحسن البصري يقول: "المؤمن قوّام على نفسه،
يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في
الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير
محاسبة".
وقال ابن أبي ملكية: "أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على
إيمان جبريل وميكائيل!!".
وقال الإمام ابن القيم (رحمه الله) :
"ومن تأمل أحوال الصحابة رضي الله عنهم وجدهم في غاية العمل مع غاية
الخوف، ونحن جميعنا بين التقصير، بل التفريط والأمن"
هكذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله عن نفسه وعصره، فماذا نقول نحن عن أنفسنا وعصرنا؟!
إنـا لنفرح بالأيام نقطـعــــــــــــها *** وكل يوم مضى يدني من الأجـل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً *** فـــإنما الربح والخسران في العمل
كيف تُحاسب نفسك؟
أولاً - رباعية الإمام ابن القيم:
ذكر الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان أن محاسبة النفس تكون كالتالي:
1- البدء بالفرائض ، فإذا رأى فيها نقصًا تداركه.
2 – التثنية بالمناهي ، فإذا عرف أنه ارتكب منها شيئًا تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية.
3 – محاسبة النفس على الغفلة ، وتدارك ذلك بالذكر والإقبال على الله.
4
– محاسبة النفس على حركات الجوارح ؛ كلام اللسان ، ومشي الرجلين ، وبطش
اليدين ، ونظر العينين ، وسماع الأذنين ، ماذا أردت بهذا ؟ ولمن فعلته ؟
وعلى أي وجه فعلته؟
ثانيًا – طريقة الإحصاء:
وهي أن تقوم بحساب أيام عمرك منذ البلوغ وتحسب كم ذنبًا اقترفت في كل يوم.
نُقِل
عن توبة بن الصّمة: أنه جلس يوماً ليحاسب نفسَه فعدّ عمره فإذا هو ابن
ستين سنة، فحسب أيّامها فإذا هي واحدٌ وعشرون ألفاً وخمسمائة يوم؛ فصرخ
وقال: يا ويلتى! ألقى الملك بواحدٍ وعشرين ألف ذنب! فكيف وفي كل يوم عشرة
آلاف ذنب؟!! ثم خرّ فإذا هو ميّت!! فسمعوا قائلاً يقول: "يا لكِ ركضةٌ إلى
الفردوس الأعلى".
يقول الغزالي معلّقاً على هذه القصّة: "فهكذا
ينبغي أن يحاسب (العبد) نفسه على الأنفاس، وعلى معصيته بالقلب والجوارح في
كلّ ساعة. ولو رمى العبد بكلّ معصية حجراً في داره لامتلأت دارُه في مدة
يسيرة قريبة من عمره، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي؛ والملكان يحفظان عليه
ذلك ((أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ...)) [المجادلة: 6]"( الإحياء، 4/589).
ثالثًا – طريقة ذوق الألم:
حكى صاحب للأحنف بن قيس قال:
"كنتُ أصحبُه فكان عامةُ صلاته بالليل، وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه
فيه حتى يحسّ بالنّار ثم يقول لنفسه: يا حنيف! ما حملك على ما صنعت يوم
كذا؟ ما حملك على ما صنعتَ يومَ كذا؟".
رابعًا - طريقة الصيام:
يُحكى
أن حسان بن أبي سنان مرّ بغرفة فقال: "متى بنيت هذه؟ ثم أقبل على نفسه،
فقال: تسألين عمّا لا يَعْنيكِ؟! لأعاقبنّك بصيام سنة، فصامها".
وقد
جربنا مثل هذه الطريقة مع أصدقاء لنا لا يصلون الفجر إلا قليلاً ، واتفقنا
أنه إذا فات الواحد منهم صلاة الفجر في يوم ينوي صيام هذا اليوم ، فما ترك
واحد منهم صلاة الفجر أبدًا.
خامسًا – تذكير النفس بأوقات تقصيرها:
قال
عبد الله بن قيس: "كنّا في غزاةٍ لنا فحضر العدو، فَصِيحَ في الناس فقاموا
إلى المصافّ في يومٍ شديد الريح، وإذا رجلٌ أمامي وهو يخاطب نفسَه ويقول:
أيْ نفسي! ألم أشهد مشهد كذا فقلتِ لي: أهلَكَ وعيالك؟!! فأطعتُك ورجعت!
ألم أشهد مشهد كذا فقلتِ لي: أهلَكَ وعيالك؟!! فأطعتُكِ ورجعت! واللهِ
لأعرضنّكِ اليوم على الله أخَذَكِ أو تَركَكِ. فقلت: لأرمقنّكَ اليوم،
فرمقته فحمل الناسُ على عدوّهم فكان في أوائلهم، ثم إنّ العدو حمل على
الناس فانكشفوا (أي هربوا) فكان في موضعه، حتى انكشفوا مرات وهو ثابت
يقاتِل؛ فواللهِ ما زال ذلك به حتى رأيتُه صريعاً، فعددتُ به وبدابته ستين
أو أكثر من ستين طعنة".
سادسًا – المخاطبة العقلية القلبية:
فيروى
عن عون بن عبد الله ، أنه كان يحاسب نفسه ، فكان يخاطبها بعقل يعرف الخير
من الشر والثواب من العقاب، وبقلب يفيض خوفًا وإشفاقًا وإجلالاً ، كان
(رحمه الله) يقول:
ويح نفسي ، بأي شيء لم أعص ربي؟
ويحي ! إنما عصيتُه بنعمته عندي.
ويحي ! من خطيئة ذهبتْ شهوتُها وبقيتْ تبعتُها عندي.
ويحي ! كيف أنسى الموت ولا ينساني.
ويحي ! إن ْ حُجبتُ يوم القيامة عن ربي.
ويحي ! كيف أغفل ولا يغفل عني.
أم كيف يشتد حبي لدارٍ ليست بداري؟
أم كيف أجمع بها وفي غيرها قراري؟
أم كيف تعظم فيها رغبتي والقليل منها يكفيني؟
أم كيف لا أبادر بعملي قبل أن يُغلق باب توبتي؟
أم كيف لا يكثر بكائي ولا أدري ما يُراد بي؟
ويحي ! هل ضرّت غفلتي أحدًا سواي؟
أم هل يعمل لي غيري إن ضيعتُ حظي؟
ويحي!
ما أشد حالي وأعظم خطري !! فاغفر لي ، واجعل طاعتك همتي ، ولا تُعرض عني
يوم تعرض ، ولا تفضحني بسرائري ، ولا تخذلني بكثرة فضائحي.
إلهي ! بأي عين أنظر إليك وقد علمتَ سرائري؟
وكيف أعتذر إليك إذا خَتَمْتَ على لساني ، ونَطَقَتْ جوارحي بكل الذي كان مني.
إلهي أنا الذي ذكرتُ عيوبي فلم تقر عيني ، أنا تائبٌ إليك فاقبل ذلك مني ..
يقول
الإمام ابن قدامة في منهاج القاصدين: "واعلم أن أعدى عدو لك نفسك التي بين
جنبيك، وقد خلقت أمارة بالسوء، ميالة إلى الشر، وقد أُمرت بتقويمها
وتزكيتها وفطامها من مواردها وأن تقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها، فإن
أهملتها جمحت وشردت ولم تظفر بها بعد ذلك وإن لزمتها بالتوبيخ رجونا أن
تصير مطمئنة، فلا تغفلن من تذكيرها".
وبعد ، فهذه ستة طرق عملية
، يمكن أن ننظر في الطريقة التي تناسب طباعنا وميولنا وتحدث فينا التأثير
المحمود فنتبعها ، كما يمكننا أن ننوع بين هذه الوسائل جميعها ؛ فالمهم هو
وصولنا إلى صلاح نفوسنا واستقامتها.