التكملة
كنت أعرف أنك ستأتي إلى هنا ...هذا يجعلك أقرب إلى نفسي لأنك بشري مثلي تتمتع بنفس عيوبي ..
ركبنا سيارة صديقي الفرنسي الفارهة.. والفارهة كما تعلمون ليست السيارة الفاخرة بل السريعة .. ركبناها ونحن نرتجف من البرد والترقب.. ولم ندر إلى أين يقودنا بالضبط، وهو يشق طريقه عبر شوارع القرية التي نامت بالفعل..
أدركنا أنه يخرج منها، وأنه يقطع طريقاً ما في الغابة .. لابد أن المشهد كان مرعباً بالنسبة لزوجتي وهي ترى كل هذا السواد يوشك على التهامنا بينما أشجار الغاب وحوش أسطورية تنقض علينا من أعلى كلما تقدمنا .. وقد كنا مصرين على التقدم ..
وشعرت بيدها الباردة تبحث عن مأوى في يدي .. وسمعت أنفاسها اللاهثة ..
الحقيقة أن (نورا) زوجة طيبة .. طيبة لأنها جديدة لم تتوحش بعد ولم تكسب أطناناً من الشحم بعد، وأعتقد أنني أهيم بها حباً حتى هذه اللحظة على الأقل ..
في النهاية كان ذلك الكوخ وسط الأشجار ..
قال لنا (جان) وهو يترجل من السيارة:
ـ" لو كانت لديكم ضحكات لم تخرج بعد فاخرجوها الآن لأن المنظر ليس جميلاً.."
لم أصدق ما يحدث حتى رأيته وزوجته يخرجان قارورة من العطر من حقيبتها، فيضع قطرات على بضعة مناديل ورقية ويعطي كلاً منا منديلاً..
ـ" معذرة .. لكن لابد من هذا على الأنف .. إن الرائحة لا تشبه الرياض في شيء .."
كان هذا الاستعداد رهيباً.. وتبعته وزوجتي في توجس.. هناك مزحة ما بالتأكيد ..لكن متى وكيف .. لا أدري .. الخلاصة أنه سيبرهن لنا على أننا أحمقان مضحكان .. المهم ألا أصرخ وأولول كالفتيات الصغيرات لحظة أن ..........
الآن ندخل الكوخ .. يضيء صديقي مصباحاً كهربياً صغيراً.. لا شيء .. الكوخ فارغ كعقل معتوه ..
لا ليس فارغاًَ إلى هذا الحد .. هناك منضدة عليها ورقة أرى بها رموزاً مألوفة ..
يشير لنا أن نلزم الصمت، ثم يدعونا إلى أن نتبعه إلى القبو .. هناك باب .. والباب بلا صرير مما يعني أن هناك من يأتي هنا كثيراً..
يفتحه .. نتبعه .. يضيء كشاف جيب صغيراً.. وينزل درجات خشبية متهالكة ..
أوف !..فهمت الآن لماذا أعطانا هذه المناديل المعطرة .. الرائحة جهنمية .. لكني لم أشم مثلها من قبل .. رائحة لا تمت لعالمنا ولا تستدعي أية رائحة مماثلة من كهوف الذاكرة ..
أخيراً نرى القفص .. القفص الضخم الشبيه بأقفاص الأسود في حدائق الحيوان، ولا شك أن له نفس الرائحة أيضاً..
قال وهو يشير إلى القفص همساً:
ـ" صه !.. إنه يبدو في العادة نائماً لكن لا أنصح بأن تجربواحظكم !"
اعتادت عيوننا الظلام، واستطعت أن أرى ـ مع شهقة رعب من زوجتي ـ أن هناك شيئاً ما بالقفص .. هل قلت شيئاً ؟.. نعم .. كنت أدق من اللازم حين قلت هذا .. إنها كتلة من الأسمال في الظلام لا تفهم من أين تبدأ وأين تنتهي..وفوق القفص وداخله سمعت حفيف أجنحة .. لا يجب أن تكون خبيراً في الحيوان كي تعرف أن هذه وطاويط .. يا للحيوانات المقيتة !
ـ" بروفسور (جوتييه) !.. أنت لا تمزح إذن !.. هناك شخص ما ..!"
ش ش ش ش ش ش ش !
انطلقت منه كأنه ثعبان الكوبرا، ووضع إصبعه على شفتيه كي أخرس .. في اللحظة ذاتها رأيت العينين .... العينين اللتين لم أر أغرب منهما في حياتي .. كانتا تحيان حياة خاصة مستقلة داخل القفص كأنما ليس لهما جسد ..
ـ" لا تنظر إلى عينيه طويلاً..!.. إنهما ترهقانك !"
الآن كانت زوجتي في أتعس حال وكانت تترنح كالدن الثقيل، وقالت وهي تغطي وجهها:
ـ" كيف .. كيف تحبسون بشراً بهذه الطريقة ؟.. إنه يذكرني بالوحوش .."
قال (جان):
ـ" لأنه وحش فعلاً.. أرى ان نخرج من هنا لنتمكن من الكلام بحرية"
وللحظة تصلبنا .. كنا كالمنومين مغناطيسياً من هذا الجو واعتقد أنك توافقني الرأي ..وفي الخارج حكى لنا (جان بيير) قصة طويلة عن هذا الساحر وكيف سجنوه هنا .. لا أدري إن كنت تهتم بهذه الأشياء أم لا .. لو كنت كذلك يمكنك أن تقرع هذا الباب لتعرف ..
نعود لقصتنا إذن ..
سألت صديقي أستاذ السوربون المتحمس:
ـ" كل هذا جميل .. لكنه سر وسر هام يخص القرية .. لماذا تخبر به واحداً مثلي لا تعرف عنه ما يكفي ؟.. ليس هذا حيواناً نادراً تعرضه على الضيوف على سبيل الفخر .."
ضحك وقال في غموض:
ـ" إنه حيوان نادر فعلاً.. لكن ليس هذا هو السبب.. السبب أنك أول مصري يرى هذا السر، ويقال إن من يقضي على هذا الرجل يجب أن يكون مصرياً !!"
ـ" يا سلام ؟.. هل هي نبوءة ؟"
ـ" نبوءة أو لا نبوءة .. لا أدري .. كل ما أعرفه أن هذه هي الأسطورة .. وقد فكرت وزوجتي في الشيء نفسه .."
وأضافت الزوجة:
ـ" يقال إنه كان يستعمل سحر قدماء المصريين .. وأنت من سلالتهم .. هل تفهم ؟.. إن بينكما شيئاً مشتركاً.."
قلت في غيظ:
ـ" وتريدان مني أن أدخل هذا القفص لأقول له: هلم يا أخ (موهون).. أنا مصري .. إلعب !"
قال وهو يوشك على أن يفقد الوعي ضحكاً:
ـ" لا شيء من هذا .. لو كان هناك شيء سيحدث فلسوف يحدث دون جهد منا .."
والشيء الذي قال إنه سيحدث حدث فعلاً..
لقد ارتجت الأرض تحت أقدامنا، ثم رأيت أنها تنشق ببطء لينزلق صديقي الفرنسي وزوجته إلى أسفل .. كان هذا أسرع مما تصورنا ومددت يدي له برد فعل غريزي، فتشبث بها وحاول أن يتماسك، بينما زوجته تعول كالأطفال ..وتتمسك به ..
لا جدوى .. إن الشد أقوى مني ومنه ..وصاح (جان بيير) وهو يهوي لأسفل عبر الشق الذي تكون في خشب الأرضية:
ـ" لا جدوى .. إنه يريد الانفراد بكما !! .. لا تخف علينا أيها الصديق .. لا تخف علينا .. الخوف عليكما !"
وقبل أن اعقب صاح:
ـ" خذ الكشاف..!"
وصاحت الزوجة التي توارت تماماً في شق الأرضية:
ـ" سامحانا .. ما كنا لنتوقع أن ......."
بينما صاح هو وقد صار رأسه في مستوى الأرضية:
ـ" حاولا الفرار .. وإن لم تستطيعا تماسكا .. إن هزيمته ممكنة .. ومهما حدث لا تنـــ........."
وفي اللحظة التالية كانا قد تلاشيا تماماً، ووجدت نفسي مع زوجتي وحدنا في كوخ تتوسط أرضيته فتحة عملاقة ..وقد تجعد خشب الأرضية وارتفع في أكثر من مكان كأننا في غابة
إن باب القبو مفتوح يقود إلى الساحر في قفصه ..
وباب الكوخ مفتوح يقود إلى السيارة الواقفة بالخارج ..
ترى أي البابين نختار ؟
| | |
باب الكوخ | |
باب القبو